محاولة للسباحة فى البحر الميت
أغمض المؤلف عينيه وامسك بيديه جانبى رأسيه معتصرا كل خلايا عقله البائسة التى أنهكها طول التفكير .. كان يحاول تأليف مسرحية لفرقته الصغيرة ذو السبعة أفراد هم إخوته الغير رسميين...لكن لم يكن التأليف هى المشكلة .. كان كل المشكلة انه يحاول إخراج نص و سيناريو و قصة رؤيتها تجعل الفرقة التى مازالت فى بداية طريقها الفنى تجعلها تصعد و تنجح و تلاقى صدى نقدى و اعلامى جيد ..
فكر و فكر و فكر ...
وأخيرا بدأ القلم يتخلى تدريجيا عن صومه و ينزل عن كبريائه التليد و بدأ فى التحرك على الورق المفرود على المنضدة ليبدأ فى رسم و خط فصول المكتوب المنتظر و الذى يظن صاحبه مثله مثل اى مؤلف آخر فى طور الكتابة و لم ير عمله النور بعد .... أن عمله سيهز العالم كله بأجمعه وسيهدم جميع النظريات التقليدية و يجعل منظرينها يتنازلون عن عروشهم الفكرية التى هرمت و لم يعد لها تأثير ..
...............................................
يفتح الستار ... ويرى تفاصيل خشبة المسرح و الرسمة الكبيرة التى فى الخلفية لتعطى بعض التأثيرات البصرية تصاحبها موسيقى لتكمل التأثير السمعى ليجعل المشاهد أذنه وعينيه و عقله مع العمل ليبقى الشيء الوحيد المتحرك فى وجهه هو فمه وهذا يتكفل به باعة الفشار على باب المسرح و بائعي المشروبات فى الداخل .. فأنت محاصر من جميع الجهات و ليس لك مفر إلا المتابعة حتى النهاية إلا إذا تقلصت أمعائك لأي سبب ما ..
المسرح فى تلك الرواية مقسم إلى جزأين جزء مظلم وآخر مضيء ويبدو انه من عنده سيبدأ المشهد الأول .. صدق ظني فعلا .. ها قد بدأت الأحداث تظهر لكن لم يظهر الأشخاص الذين سيمثلون الأدوار ولم تبدأ الأحداث من الجزء المضيء بل من النصف المظلم حيث ظهرت طاقة من النور انبعثت من مكان ما لتلقى بقذيفتها المضيئة على لوحة بيضاء فى الخلفية .. هل اخطأ المؤلف .. بدلا من أن يؤلف نص مسرحي ألف قصة و سيناريو فيلم سينمائي ؟!
دعنا لا نسبق الأحداث و لنرى ماذا حدث و ماذا سيحدث
............................
1 –
ارتفع صوت المدرس وهو يمسك الطبشور بيده اليمنى و العصا فى اليد اليسرى هاتفا فى حنق و ملل :
- وهكذا كان خروج الانجليز من مصر سنة 1956 يوم عزة وكرامة لجميع طوائف الشعب و ..........
قاطعه هذا الفتى الجالس فى المكتب الخشبي الأول المقابل للمدرس تماما قائلا بحماس :
- يعنى إيه يا أستاذ عزة .. و يعنى إيه كرامة ... ويعنى إيه طوائف الشعب مش الشعب كله حاجة واحدة ؟
زغر له المدرس و قد نفد صبره تماما فقد كانوا آخر حصة فى اليوم الدراسي و يومه كان مليئا جدا ويأتي فى نهاية الحصص ولد جالس طوال النهار ليظهر بأسئلته أمام أصدقائه بمنظر الذكي الفاهم المتبحر فى العلوم
رد عليه المدرس فى سخط :
- اقعد ياد .. ابقى اسأل أبوك و هو يبقى يقولك .. ده لو كان يعرف !!!
2 –
كانت الفرحة تكاد تتقافز من عيني الفتى اللامعتين التى امتلأت فى نفس الوقت بالدموع ... لقد نجح فى كل المواد بتفوق لكنه نقص فى درجات اللغة العربية .. لا يدرى كيف هذا.. لقد راجع الامتحان قطعة قطعة وسؤال سؤال ولم يجد أي خطأ فى إجاباته ... ذهب مع والده إلى المدرسة ليكشفوا عن ورقة إجابته فى تلك المادة ووجدوا الفاجعة .. لقد سقط في التعبير و مكتوب بالقلم الأحمر بيد المصحح صفر وتعليله تحدث الطالب فى أمور لا تتعلق بصلب الموضوع المراد التحدث عنه .. كان واضع الامتحان يريد منه أن يتكلم عن الإرهاب وعن أضراره و أسبابه وكيفية محاربته .. نظر الوالد إلى ابنه وقال له مندهشا :
- يا ولدى هذا موضوع سهل و اعرف انك تعرف عنه الكثير وليس من الصعب عليك التحدث عنه و أظــ....
قاطعه المسئول عن عملية إعادة كشف الورقة و هو يرتب بعض الأوراق الأخرى الموجودة فى نفس المنطقة من المكتب متململا :
- هذا صحيح سيادتك .. ابنك يعرف أشياء كثيرة و ويعرف عن الإرهاب لكن ما تكلم عنه ليس هو الإرهاب المعروف و المشهور من أصحاب اللحى .. لكنه تكلم عن الإرهاب الوقع على الفلسطينيين و العراقيين و إلا...... !!!
3 –
نفس الفتى الظاهر قبل ذلك مع الاختلاف أن ذلك الشعاع المطل من عينيه قد خفت و انطفأ من عينيه ... و انتقل اللمعان من عينيه إلى حذائه و شعره .. اقتربت الكاميرا من الفتى قليلا انه داخل الحرم الجامعي يجلس على سلم المدرج الكبير الذى تشتهر به كليته العتيدة .. كان يجلس و بجانبه زميلة له و يتحدثان وقد ظهر الجد على ملامحهما.. يبدوا أنهما يخططان لأمر جلل فعلا من هذا الهمس و التلفت الكثير .. انه يعتصر عقله كأنه قد نسى شيئا و يحاول تذكره ثم خبط سبابته و وسطاه فى حركة مفاجئة محدثا صوتا أشبه بضربة السوط الصغير ليدل على تذكره لأمر ما ..
اقتربت عندها السماعات منهما لتسمع ماذا يدور بينهما من هذا الكلام ..اقتربت لتسمع كلام الفتى يتحدث قائلا بحزن دفين :
- فعلا كان منظر موت الوالد أمس مؤثر جدا .. لقد جعلنى اذرف الدموع بلا توقف ... هذا الفنان يستحق جائزة الأوسكار فعلا عن فيلمه الجديد هذا و ............... !!!
...................................................
لقد أظلمت اللوحة المضيئة وسكن المسرح تماما.... ماذا يريد المؤلف قوله فى مسرحيته أو فيلمه أيا كان وسيلته الفنية فى التعبير عن مكنون تفكيره .. سكن المسرح لعدة ثواني ليبدأ هدير الماكينة مرة أخرى .. وتشتعل أضواء الجزء الذى كان مظلما و الذى كان يعرض فيه الفيلم منذ قليل .. ويظلم أضواء الجزء الذى كان منيرا قبل ذلك .. أظلم لينير بأضواء الفيلم مرة أخرى ...
.........................................
كان الجزء الثاني من الفيلم مختلف تماما عن الأول ... انتقلت الكاميرا لتنقل ندوة ثقافية تتحدث عن أضرار حرق قش الأرز السنوى و الذى تبدأ ندواته دائما مع بداية مهرجان حصاد الأرز .. كل سنة يقام هذا الحفل و يحضره هؤلاء الأشخاص المرتديين الباريه العقادي ( نسبة لعباس العقاد ) ليشعروا أو يشعروا من حولهم بأنهم مثقفين فعلا ..
فجأة خرج صوت من آخر القاعة لرجل عجوز يتابع هذه الندوة منذ البداية قائلا بوهن :
- لكن الماكينات التى سوف تهرس القش مكلفة جدا و تحتاج إلى ..............!!
انتقلت الكاميرا قاطعة كلمة الرجل العجوز لتذهب إلى مائدة مستديرة يجلس عليها أناس متأنقين ذو حلل فاخرة من النوع التى تجعل الرجل فاتنا ..
كان الحديث عن كيفية إشراك الناس التى تفكر و تعقل و تفهم و المثقفة فى أتون الحياة العملية للناس و جعلهم يحتكون بهم .. وكان الحديث ..
- لكن يا رجل .. المثقف يحس إلى حد ما بتفوق و تميز عن الناس العاديين أو على حد تعبير بعضهم الهامشيين .. كيف تحول هذا الهامشى فى عقل المثقف إلى شخص له وجود و شعور مثله تماما فقط هو لا يمتلك كم المعلومات التى يملكها أخوه هذا .. ألست معى ؟
- لا طبعا ... ليست المشكلة موضوع غرور أو استعراض عقلى .. لكن فعلا كلاهم معذور فعلا .. الشخص العادي الذى هو من العمل إلى البيت و من العمل إلى البيت والذى لايكسر عادته تلك إلا عندما يخرج إلى قبره ..
هو كل ما يعرفه أن عليه توفير قوته و قوت أولاده و أن محاولة لتغيير هذا المسار ستؤدى إلى تعطيله أو إلى قطع رزقه أحيانا فيرفع عندها لافتات كثيرة ليقنع نفسه ومن يجادله انه على الطريق الصحيح ..
أما المثقف أو من يحاول أن يكون مثقف فتلك حكايته حكاية .. فهو مثل من يحجل برجل مكسورة .. انه يحاول أن يوفق بين العمل ليوفر غذاءه ومسكنه وملبسه و بين الثقافة لغذاء عقله و مسكن ..... و ملـــ..............
.............................................
أوشك الفيلم على الانتهاء و استعد المشاهدين للتصفيق خاصة عندما بدأت الكاميرا فى الابتعاد عن المشهد و تبدأ فى تظليم الشاشة ... اقترب المؤلف من خلف الستار ليرى أثر عمله على المشاهدين .. هذا العمل الذى اقنع به أعضاء فرقته بعد ساعة من التبريرات و التعليلات و الاستدلالات حتى اقتنعوا على مضض .. وهذا من وجهة نظره ميزة المؤلف انه فعلا لا يظهر على الشاشة ولكنه هو من يمسك كل الخيوط من خلف الكواليس و لا يستغنى عنه فى اى مرحلة من مراحل إتمام العمل ..
ظهرت الآن كلمة النهاية .. ظهرت مع إطلالة المؤلف و محاولة رؤية الجمهور .. كل هذا توافق مع تصفيق المشاهدين .. أطل المؤلف و على وجهه ابتسامة عريضة محاولا تخيل رؤية وجوه أصدقائه الممثلين و هم جالسين مع المشاهدين .. أطل والحبور يملأ عينيه بقوة كبيرة مع صوت التصفيق .. وبنفس القوة تجمدت نظرة السرور مرة واحدة ..
فقد كان المشاهدين هم أعضاء فرقته فقط
جدير بالذكر أنهم كانوا يلوحون له بأيديهم مشجعين .. و ........!!!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة : البحر الميت هو بحيرة كبيرة فى الأردن يقال أنها كانت مكان قوم نبي الله لوط .. ماء هذا البحر فيه خاصية غريبة .. انك تستطيع الطفو فيه بسهولة .... و مهما حاولت السباحة !!
- قد تعتبر هذه قصة قصيرة او قد تعتبرها كلام فلسفى .. المهم أن تعتبرها شيئا ما يصنف بعض الأشياء الأخرى !!
أحمد عطاالله النديم
مايو 2008
No comments:
Post a Comment